الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي
.[فرع: أنواع الاستسقاء] قال الشافعي: (ويجوز أن يستسقى بغير صلاة). قال أصحابنا: الاستسقاء على ثلاث أضربٍ:أحدها -وهو أفضلها-: أن يأمر الناس الإمام بالصيام، ويستسقي بالصلاة والخطبة، كما ذكرناه. والثاني: أن يستسقي بالدعاء لا غير، إما قبل الصلاة، أو بعدها، نفلاً كانت أو فرضًا؛ لما ذكرناه في أول الباب في الرجل الذي قال للنبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وهو على المنبر يوم الجمعة: «هلك الكراع والشاء، فدعا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -». والثالث: أن يجمع الناس، ويدعو؛ لما روي: أن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - خرج يستسقي، فصعد المنبر، فلم يزد على الاستغفار، حتى نزل، فقيل له: لو استسقيت؟! فقال: (لقد استسقيت بمجاديح السماء التي يُستنزل بها القطر). قال أبو عبيد [في " الغريب " (3 259)] (المجاديح): واحدها مجدح ومجدح -بكسر الميم وضمها- وهو كل نجم من النجوم التي كانت العرب تمطر به في الأنواء، فجعل عمر الاستغفار هي المجاديح التي يستنزل بها القطر، لا الأنواء؛ لأن عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - ممَّن لا يرى بالأنواء، وإنما ذلك على طريق التشبيه على ما تقوله العرب من الأنواء. .[مسألة:إذا تأخرت السقيا] فإن لم يُسْقَوْا.. قال الشافعي في موضع: (يعودون من الغد).وقال في القديم: (يخرج ثلاثًا متواليًا إن لم يشق عليهم). وقال في "الأم" [1/219] (يأمرهم بصيام ثلاثة أيام). فمن أصحابنا من قال: في ذلك قولان، حتى قال ابن القطان: ليس في الاستسقاء مسألة على قولين إلا هذه: أحدهما: يأمرهم بصيام ثلاثة أيام، ويخرجون يوم الرابع صيامًا، كما قلنا في الأول. والثاني: لا يأمرهم بصيام ثلاثة أيام، بل يخرجون من الغد؛ لأنهم قد صاموا الثلاث، ويشق عليهم صوم ثلاث غيرها. وقال الشيخ أبو حامد: ليست على قولين، وإنما هي على حالين: فإن كان الإمام يعلم أنه إذا أخرجهم في اليوم الثاني، لا يشق عليهم، ولا يقطعهم عن أشغالهم ومعاشهم.. فعل ذلك، وإن كان يعلم أنه يقطعهم.. أمرهم بالصوم، وخرجوا في اليوم الرابع. وأما قول ابن القطان: ليس في الاستسقاء مسألة على قولين غير هذه.. فقد مضى ذكر مسألة قبلها في القلب والتحويل على قولين. .[فرع: استسقاء المسلم لأخيه] قال الشافعي: (وإن كانت ناحيةٌ خصبة، وأخرى جدبةٌ.. فحسن أن يستسقي أهل الخصبة لأهل الجدبة ولسائر المسلمين)؛ لأن الله تعالى أثنى على من دعا لغيره، فقال: {وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ} الآية [الحشر: 10].قال الشافعي: (وإذا تهيأ الإمام للاستسقاء، فسقوا قبل أن يخرج.. استحب له أن يخرج، ويستسقي، ويشكر الله تعالى على ذلك، ويستزيده من المطر) فإن استدام المطر حتى تأذى الناس به، وخافوا أن يهدم البيوت.. جاز أن يدعو الله تعالى أن يحبسه عنهم، ويصرفه إلى حيث ينفع ولا يضر من الآكام وبطون الأودية؛ لما ذكرناه في الخبر الأول في أول الباب. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يقول في دعائه في الاستسقاء: «اللهم سُقْيَا رَحْمَةٍ، ولا سقيا عذاب، ولا محق ولا بلاء، ولا هدم، ولا غرق، اللهم على الظراب، ومنابت الشجر، وبطون الأودية، اللهم حوالينا ولا علينا». .[مسألة:لا يلزم الخروج للاستسقاء إلا في الجدب] قال الشافعي: (وإن نذر الإمام أن يستسقي.. لزمه ذلك، ولا يلزمه أن يخرج الناس، وإن أخرجهم.. لم يلزمهم الخروج معه؛ لأنه ليس له أن يكرههم على الخروج في غير حال الجدب).قال الشيخ أبو حامد: وهذا يدل على أن للإمام أن يكرههم على الخروج في حال الجدب. وإن نذر غير الإمام أن يستسقي.. لزمه ذلك؛ لأنه نذر طاعة، فإن نذر أن يستسقي بالناس.. لزمه في نفسه دون الناس؛ لأنه لا يملك إخراجهم. ويستحب أن يُخرج معه من يقدر عليه من ولده وعبده وأهله، ويجزئه أن يستسقي في داره، أو في المسجد؛ لأن الاستسقاء هو الدعاء، وذلك لا يختص بالمسجد. قال الشافعي: (وإن نذر غير الإمام أن يستسقي، ويخطب.. لزمه أن يستسقي، ويخطب، ويجزئه أن يخطب قائمًا وقاعدًا). وإن كان هناك ناسٌ.. قال الشيخ أبو حامد: لزمه أن يخطب قائمًا. وإن نذر أن يخطب على المنبر.. جاز أن يخطب على المنبر، أو على راحلته، أو نشز من الأرض؛ لأنه لا يختص بمكان دون مكان. قال الشافعي:وأحبُّ أنْ يتمطر الإنسان في أول مطر حتى يصيب ثيابه وبدنه؛ لما روي: أن «النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا جاء أول المطر.. خرج حتى يصيب جسده منه، ويقول: "إنه قريب عهد بربه». وروي: أن ابن عباس كان إذا جاء المطر، يأمر عبده أن يخرج رحله وفراشه على المطر، فقيل له في ذلك؟ فقال: أما قرأت: {وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا} [ق: 9]؟! فأحب أن ينالني من بركته. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا سال الوادي.. قال لأصحابه: «اخرجوا بنا إلى هذا الذي سمَّاه الله طهورًا، فنتطهَّر منه، ونحمد الله عليه». ويستحب أن يدعو عند نزول الغيث؛ لما روى الشافعي بإسناده: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اطلبوا استجابة الدُّعاء عند ثلاث: عند التقاء الجيوش، وإقامة الصلاة، ونزول الغيث». .[فرع: المطر من فضل الله تعالى] روى الشافعي في "الأم" [1/223] «عن زيد بن خالد، قال:صلَّى بنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل، ثم قال: أتدرون ما قال ربكم؟، قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: قال: أصبح من عبادي مؤمن بي كافرٌ بالكوكب، وكافرٌ بي مؤمن بالكوكب، فمن قال: مطرنا بفضل الله ورحمته.. فذلك مؤمن بي كافرٌ بالكوكب، ومن قال: مطرنا بنوء كذا.. فذلك كافرٌ بي مؤمن بالكوكب».و (الأنواء): هي البروج، وهي ثمانية وعشرون نجمًا، يطلع في كل ثلاثة عشر يومًا منها واحد، ويغيب رقيبه، والنوء: هو النهوض، فمن قال: إن النوء هو الممطر.. فذلك كافرٌ، وإن أراد: أنه وقت أجرى الله تعالى العادة بمجيء المطر فيه.. فيكره أن يقال ذلك، ولكن لا يكفر قائله. وقد روى عن عمر: أنه قال في يوم جمعة على المنبر: (كم بقي من نوء الثُريَّا؟ فقال العباس: العواء، ودعا الناس حتى نزل من المنبر، فَمُطِروا مطرًا أحيا الناس). .[فرع: إشفاقه صلى الله عليه وسلم من البرق والرعد] وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان إذا برقت السماء، أو رعدت.. عُرف ذلك في وجهه، فإذا نزل المطر.. سري عنه».قال الشافعي: (ولا ينبغي لأحد أن يسب الريح.. فإنها خلق لله مطيعة). وروي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «الريح من روح الله، تأتي بالرحمة، وتأتي بالعذاب، فلا تسبُّوها، واسألوا الله خيرها، وعُوذُوا به من شرها». وروي عن عروة: أنه قال: (إذا رأى أحدكم البرق.. فلا يشير إليه). قال الشافعي: حكي عن مجاهد، أنه قال: الرعد ملك، والبرق بياض جناحيه إذا نشرهما، وما أحسن ما قال؛ لأن الله تعالى قال: {وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ} [الرعد: 13]. ويستحب لمن سمع الرعد أن يسبح؛ لما روي عن ابن عباس: قال: كنا مع عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في سفر، فأصابنا رعد وبرق وبرد، فقال لنا كعب: من قال حين يسمع الرعد: سبحان من يسبح الرعد بحمده، والملائكة من خيفته (ثلاثًا).. عوفي من ذلك الرعد، فقلنا ذلك، فعوفينا. وروي عن بعض الصحابة: أنه كان إذا سمع الرعد.. قال: (سبحان من سبحت له). وبالله التوفيق. .[كتاب الجنائز] .[باب ما يفعل بالميت] يستحب لكل أحد أن يكثر من ذكر الموت في جميع أحواله؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «أكثروا من ذكر هاذم اللذات. فما ذكر في كثير... إلا وقلله، ولا ذكر في قليل إلا وكثره».وروي: (أنه كان منقوشًا على خاتم عمر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: كفى بالموت واعظًا يا عمر). وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «استحيوا من الله حق الحياء فقيل له: وكيف ذلك: قال: من حفظ الرأس وما حوى، والبطن وما وعى، وترك زينة الحياة الدنيا، وذكر الموتى والبلى... فقد استحيا من الله حق الحياء». وروي: (الجوف وما وعى) فقيل: معناه: البطن والفرج، فيكون تأويله: ألا يضع في بطنه إلا حلالاً، ولا يضع فرجه إلا في حلال. وقيل: بل أراد (بالجوف): القلب، (وما وعى): من معرفة الله والعلم بحلاله وحرامه، وأن لا يضيع ذلك. وأما (الرأس): فقال أبو عبيد: أراد به الدماغ، وإنما خص به القلب والدماغ؛ لأنهما مجمع العقل ومسكنه. ويستحب أن يستعد للموت: بالخروج من المظالم، وإصلاح المشاجر له، والإقلاع عن المعاصي، والإقبال على الطاعات؛ لأنه لا يأمن أن يأتيه الموت فجأة، واستحبابنا ذلك في حال المرض أشد؛ لأنه سبب الموت. .[مسألة: الصبر عند المرض والابتلاء] ومن مرض... استحب له أن يصبر عليه؛ لما روي: «أن امرأة قالت: يا رسول الله، ادع الله أن يشفيني، فقال: إن شئت دعوت الله فشفاك، وإن شئت... فاصبري، ولا حساب عليك، فقالت: أصبر ولا حساب علي» ويكره للمريض الأنين، لما روي عن طاووس: أنه كره له ذلك.ويكره للمريض أن يتمنى الموت وإن اشتد مرضه؛ لما روي عن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أنه قال: «لا يتمنين أحدكم الموت، لضيق نزل به، وليقل: اللهم أحيني ما كانت الحياة خيرًا لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيرًا لي». ويستحب له أن يتداوى؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إن الله تعالى أنزل الداء والدواء، فتداووا، ولا تداووا بالحرام». ويستحب للإنسان أن يحسن ظنه بالله تعالى في حياته، وعند وفاته؛ لما روى جابر: أنه قال: «سمعت النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قبل موته بثلاث يقول: لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله تعالى». وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «يقول الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، فليظن بي ما شاء». وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على شاب، وهو يكابد الموت، فقال: كيف تجدك؟، فقال: أرجو الله يا رسول الله، وأخاف من ذنوبي، فقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو، وأمنه مما يخاف» ويستحب عيادة المريض، لما روي عن البراء بن عازب، أنه قال: «أمرنا رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - باتباع الجنائز، وعيادة المريض، وإجابة الداعي، ونصرة المظلوم، وإبرار القسم، ورد السلام، وتشميت العاطس». وروى علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأرضاه: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «ما من مسلم يعود مسلمًا غدوة وعشية... إلا صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يمسي، وإن عاده عشية صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح، فإن رجا له العافية... دعا له بها». والمستحب: أن يقول: أسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفيك (سبع مرات)؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «من قال ذلك سبع مرات عند مريض لم يحضره أجله... عافاه الله من مرضه». ويستحب أن يبشره بالعافية؛ لما روى أبو سعيد الخدري: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «إذا دخلتم على المريض... فنفسوا له في أجله، فإن ذلك لا يرد شيئًا، ويطيب نفسه». وإن رآه منزولاً به، فالمستحب: أن يلقنه قول: لا إله إلا الله؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لقنوا موتاكم لا إله إلا الله» والمستحب: أن لا يقول له: قل: لا إله إلا الله، ولكن يقول عنده؛ لأنه ربما ضاق صدره إذا قال له: قل: لا إله إلا الله، فقال: لا، فيكفر، ولا يكثر عليه. قال المحاملي: بل يلقنه ثلاث مرات، فإذا قالها... لم يلقن إلا أن يتكلم بكلام غيرها؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة». ويستحب أن يوضع على جنبه الأيمن، ويستقبل القبلة بجميع بدنه، كما يوضع الميت في لحده؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إذا نام أحدكم... فليتوسد يمينه». وقال - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «خير المجالس ما استقبل به القبلة». فاستحب أن يموت على أشرف الهيئات. وروي: أن فاطمة ابنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قالت لأم ولد رافع: (ضعي فراشي هاهنا، واستقبلي بي القبلة، ثم قامت، واغتسلت كأحسن ما يغتسل، ولبست ثيابًا جددًا، ثم قالت: تعلمين أني مقبوضة الآن، ثم استقبلت القبلة، وتوسدت يمينها). قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (فإن لم يكن ذلك لضيق المكان... ألقي على قفاه حتى يكون بوجهه وقدميه مستقبل القبلة). ويستحب أن يُقرأ عنده سورة (يس)؛ لما روي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «اقرؤوا على موتاكم يس». ويستحب أن يقرأ عنده سورة (الرعد)؛ لما روي عن جابر بن زيد: أنه قال: اقرؤوا على موتاكم سورة الرعد؛ فإنها تهون عليه خروج الروح. .[مسألة: ما يسن فعله بالميت] إذا مات الميت... استحب أن يُفعل به سبعة أشياء:أحدها: أن يتولى أرفق أهله به - إما ولده، أو والده - إغماض عينيه بأسهل ما يقدر عليه، لما روت أم سلمة: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أغمض أبا سلمة لما مات، وقال: إن البصر يتبع الروح»، ولأنه إذا لم يفعل ذلك... بقيت عيناه مفتوحتين، فقبح منظره، وإذا أغمضتا... بقي كالنائم. الثاني: أن يشد لحيه الأسفل بعصابة عريضة أو عمامة، ويربطها فوق رأسه؛ لئلا يبقى فوه مفتوحًا، فتدخل إليه الهوام. الثالث: أن يلين مفاصله، فيرد ذراعيه إلى عضديه، ثم يمدهما، ويرد أصابع يديه إلى كفيه، ثم يمدها، ويرد فخذيه إلى بطنه، وساقيه إلى فخذيه، ثم يمدهما؛ ليكون أسهل على غاسله، وذلك: أن الروح إذا فارق البدن... كان البدن حارًا، لقرب مفارقة الروح، ثم تبرد، فإذا لين عقيب خروجه لانت وإذا لم يلين... بقيت جافة. الرابع: أن ينزع عنه ثيابه التي مات فيها. قال الشافعي: (سمعت أهل التجربة يقولون: إن الثياب تحمى عليه، فيسرع إليه الفساد). الخامس: أن يسجى جميع بدنه بثوب؛ لما روت عائشة أم المؤمنين: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما مات... سجي بثوب حبرة». السادس: أن يترك على شيء مرتفع من الأرض: إما سرير أو لوح؛ لئلا تصيبه نداوة الأرض، فيتغير ريحه. السابع: أن يثقل بطنه بحديدة، أو طين رطب؛ لما روي: أن مولى لأنس مات، فقال أنس: (ضعوا على بطنه حديدة؛ لئلا ينتفخ). قال الشافعي: (وأول ما يبدأ به ولي الميت بعد ذلك أن يقضي دينه إن كان عليه، أو يحتال به على نفسه)؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «نفس المؤمن معلقة بدينه»، وروي: «مرتهنة بدينه، حتى يقضى عنه»، وإن كان قد وصى بوصية... نفذت؛ لكي يتعجل له منفعتها. .[مسألة: التحقق من الموت قبل الدفن] فإذا مات بمرض وعلة معروفة... لم يدفن حتى تظهر فيه علامات الموت؛ لأنه قد يغشى عليه، فيخيل إليهم أنه قد مات.وذكر الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - للموت أربع علامات: (إحداهن: أن تسترخي قدماه، فينصبان، فلا ينتصبان. الثانية: أن تميل أنفه. الثالثة: أن تمتد جلدة وجهه. الرابعة: أن ينخلع كفه من ذراعه). وذكر أصحابنا علامة خامسة: وهو: أن ينخسف صدغاه. فإذا شوهدت هذه العلامات فيه، مع تقدم المرض... تحقق بذلك موته. وإن مات فجأة بغير علة، كأن يموت من فزع، أو غرق، وما أشبه ذلك... فإنه ينتظر حتى يتحقق موته. فإذا تحقق موته في هذا، أو في القسم قبله. فالسنة: أن يبادر إلى تجهيزه ودفنه؛ لقوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «ثلاثة لا تؤخروهن: الصلاة، والجنازة، والأيم إذا وجدت كفؤًا». وروي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - دخل على طلحة بن البراء يعوده، فقال: ما أرى الموت إلا قد ذهب بطلحة، فإذا مات... فآذنوني، وبادروا به، فما ينبغي لجيفة مسلم أن يكون بين ظهراني أهله». وبالله التوفيق. .[باب غسل الميت] غسل الميت فرض من فروض الكفاية، يجب على من علمه ميتًا أن يتولاه، فإذا قام به البعض... سقط الفرض عن الباقين؛ لما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال في الرجل الذي سقط عن بعيره، فمات: اغسلوه بماء وسدر» قال أصحابنا: وهو إجماع لا خلاف فيه..[مسألة: المقدم لغسل الميت] فإن كان الميت رجلاً لا زوجة له: فأولى الناس بغسله الأب، ثم الجد أبو الأب وإن علا، ثم الابن، ثم ابن الابن وإن سفل، ثم الأخ، ثم ابن الأخ وإن سفل، ثم العم، ثم ابن العم وإن سفل، على ترتيب العصبات.وإنما قدمنا الأب والجد على الابن، لأنهم أكثر شفقة عليه من الابن. وإن كان له زوجة... جاز لها غسله. قال أصحابنا: وهو إجماع لا خلاف فيه، إلا رواية تروى عن أحمد: أنه قال: (لا يجوز لها). والدليل عليه: ما روي عن عائشة أم المؤمنين - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: أنها قالت: (لو استقبلنا من أمرنا ما استدبرنا... ما غسل رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - غير نسائه). وروي: (أن أبا بكر أوصى أن تغسله امرأته، وهي: أسماء ابنة عميس)، ولا مخالف له، وهل تقدم الزوجة على الأب والجد وسائر القرابات؟ فيه وجهان: أحدهما: تقدم؛ لأن لها النظر إلى عورته، بخلاف القرابات فيه. والثاني: تقدم القرابة عليها، كما يقدمون في الصلاة عليه. والأول أقيس؛ لما ذكرناه من حديث عائشة وأبيها، فإن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأبا بكر - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كان لهما قرابة من الرجال. ويخالف الصلاة؛ لأن المرأة لا مدخل لها في التقدم بالصلاة على الميت. قال أبو المحاسن من أصحابنا: وإن مات رجل وامرأته حامل، فوضعت قبل أن تغسله... حل لها غسله بعد الوضع. وقال أبو حنيفة: (ليس لها أن تغسله). دليلنا: أنه مات على الزوجية التامة، فأشبه إذا بقيت عدتها. وإن كان له نساء من ذوات محارمه، كأمه، وجدته، وأخته، ومن أشبههن، فالذي يقتضي المذهب: أنه يجوز لهن غسله، كما يجوز له غسلهن، إلا أن الرجال والزوجة يقدمون عليهن. وإن كان الميت امرأة، ولا زوج لها... فالنساء أحق بغسلها من الرجال، سواء كن محارم لها، أو أجنبيات؛ لأنهن أوسع في باب النظر، وأولاهن ذوات رحم محرم، وهن: كل من لو كانت رجلاً لم يحل له أن يتزوج بها، مثل: الأم، والجدة، والأخت، وابنة الأخ، وابنة الأخت، ومن أشبههن، ثم ذات رحم غير محرم، مثل: ابنة العم، ثم الأجنبيات. فإن لم يكن هناك نساء... غسلها أقاربها من الرجال، من كان ذا رحم محرم لها، كالأب، ثم الجد، ثم الابن، ثم ابن الابن، ثم الأخ، ثم ابن الأخ، ثم العم، وهم عصبة لها ومحرم. فإن اجتمع الخال وابن الأخت مع ابن العم... غسلها الخال، أو ابن الأخت؛ لأنهما من ذوي الأرحام المحرمين، وابن العم ليس من المحرمين، بل هو عصبة لا غير. وإن ماتت امرأة، ولها زوج... جاز له غسلها، وبه قال مالك، والأوزاعي، وأحمد، وإسحاق. وقال أبو حنيفة: (لا يجوز له غسلها). دليلنا: ما «روت عائشة: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: لو مت قبلي... لغسلتك ودفنتك». وروي: (أن فاطمة الزهراء ابنة رسول الله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لما ماتت... أوصت أن يغسلها علي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وأسماء ابنة عميس - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فغسلاها) وظهر ذلك في الصحابة، ولم ينكره أحد، فدل على أنه إجماع. ولأنه أحد الزوجين، فجاز له غسلها، كالزوجة. ولأن النظر الذي يستفاد بعقد النكاح نظران: نظر شهوة، ونظر حرمة، فإن مات أحد الزوجين... بطل جواز النظر بالشهوة، وبقي جواز النظر بالحرمة. إن ثبت هذا: فهل يقدم الزوج على غيره؟ فيه وجهان، كالوجهين في الزوجة، هل تقدم على الرجال، وقد مضى توجيههما. فإن قلنا: تقدم الزوجة على الرجال... قدم الزوج - هاهنا - على النساء والرجال من أقاربها؛ لأنه أوسع في باب النظر منهن ومنهم. وإن قلنا: يقدم الرجال على الزوجة... قدم النساء - هاهنا - ثم القرابات المحرمون من الرجال، ثم الزوج. وإن مات وله امرأتان أو أكثر في حالة واحدة... أقرع بينهما بتقديم الغسل؛ لأنه لا مزية لإحداهما على الأخرى. وإن طلق زوجته طلاقًا رجعيًا، ثم مات أحدهما... لم يجز للآخر غسله. وقال مالك - رَحِمَهُ اللَّهُ - في إحدى الروايتين عنه: (يجوز له أن يغسلها). دليلنا: أنها محرمة الوطء عليه، فأشبهت المبتوتة. |